سورة الرعد - تفسير تفسير الشوكاني

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الرعد)


        


الهمزة في قوله: {أَفَمَن يَعْلَمُ} للإنكار على من يتوهم المماثلة بين من يعلم أنما أنزله الله سبحانه إلى رسوله صلى الله عليه وسلم من الحق الذي لا شك فيه ولا شبهة، وهو القرآن، وبين من هو أعمى لا يعلم ذلك، فإن الحال بينهما متباعد جدّاً كالتباعد الذي بين الماء والزبد، وبين الخبث والخالص من تلك الأجسام، ثم بين سبحانه أنه إنما يقف على تفاوت المنزلتين، وتباين الرتبتين أهل العقول الصحيحة، فقال: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الألباب}.
ثم وصفهم بهذه الأوصاف المادحة، فقال: {الذين يُوفُونَ بِعَهْدِ الله} أي: بما عقدوه من العهود فيما بينهم وبين ربهم، أو فيما بينهم وبين العباد {وَلاَ يِنقُضُونَ الميثاق} الذي وثقوه على أنفسهم، وأكدوه بالإيمان ونحوها، وهذا تعميم بعد التخصيص، لأنه يدخل تحت الميثاق كل ما أوجبه العبد على نفسه كالنذور ونحوها، ويحتمل أن يكون الأمر بالعكس فيكون من التخصيص بعد التعميم على أن يراد بالعهد جميع عهود الله، وهي أوامره ونواهيه التي وصى بها عبيده، ويدخل في ذلك الالتزامات التي يلزم بها العبد نفسه، ويراد بالميثاق: ما أخذه الله على عباده حين أخرجهم من صلب آدم في عالم الذرّ المذكور في قوله سبحانه: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِى ءادَمَ} [الأعراف: 171].
{والذين يَصِلُونَ مَا أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ} ظاهره شمول كل ما أمر الله بصلته، ونهى عن قطعه من حقوق الله وحقوق عباده، ويدخل تحت ذلك صلة الأرحام دخولاً أوّلياً، وقد قصره كثير من المفسرين على صلة الرحم، واللفظ أوسع من ذلك {وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} خشية تحملهم على فعل ما وجب، واجتناب ما لا يحلّ {وَيَخَافُونَ سُوء الحِسَابِ} وهو الاستقصاء فيه والمناقشة للعبد، فمن نوقش الحساب عذب، ومن حق هذه الخيفة أن يحاسبوا أنفسهم قبل أن يحاسبوا.
{وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابتغاء وَجْهِ رَبّهِمْ} قيل: هو كلام مستأنف، وقيل: معطوف على ما قبله، والتعبير عنه بلفظ المضيّ للتنبيه على أنه ينبغي تحققه، والمراد بالصبر الصبر على الإتيان بما أمر الله به، واجتناب ما نهى عنه. وقيل: على الرزايا والمصائب، ومعنى كون ذلك الصبر لابتغاء وجه الله: أن يكون خالصاً له، لا شائبة فيه لغيره {وأقاموا الصلاة} أي: فعلوها في أوقاتها على ما شرعه الله سبحانه في أذكارها وأركانها مع الخشوع والإخلاص، والمراد بها الصلوات المفروضة، وقيل أعمّ من ذلك {وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ} أي: أنفقوا بعض ما رزقناهم، والمراد بالسرّ: صدقة النفل، والعلانية: صدقة الفرض؛ وقيل: السرّ لمن لم يعرف بالمال، أو لا يتهم بترك الزكاة، والعلانية لمن كان يعرف بالمال أو يتهم بترك الزكاة {وَيَدْرَءونَ بالحسنة السيئة} أي: يدفعون سيئة من أساء إليهم بالإحسان إليه كما في قوله تعالى: {ادفع بالتى هِىَ أَحْسَنُ} [فصلت: 34]، أو يدفعون بالعمل الصالح العمل السيء، أو يدفعون الشرّ بالخير، أو المنكر بالمعروف، أو الظلم بالعفو، أو الذنب بالتوبة، ولا مانع من حمل الآية على جميع هذه الأمور، والإشارة بقوله: {أولئك} إلى الموصوفين بالصفات المتقدّمة {لَهُمْ عقبى الدار} العقبى مصدر كالعاقبة؛ والمراد بالدار الدنيا، وعقباها الجنة؛ وقيل: المراد بالدار الدار الآخرة، وعقباها الجنة للمطيعين، والنار للعصاة.
{جنات عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} بدل من عقبى الدار أي: لهم جنات عدن، ويجوز أن يكون مبتدأ، وخبره يدخلونها، والعدن أصله الإقامة، ثم صار علماً لجنة من الجنان. قال القشيري: وجنات عدن: وسط الجنة وقصبتها وسقفها عرش الرحمن، ولكن في صحيح البخاري وغيره: «إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة».
{وَمَنْ صَلَحَ مِنْ ءابَائِهِمْ} يشمل الآباء والأمهات {وأزواجهم وذرياتهم} معطوف على الضمير في يدخلون، وجاز ذلك للفصل بين المعطوف والمعطوف عليه، أي: ويدخلها أزواجهم وذرياتهم، وذكر الصلاح دليل على أنه لا يدخل الجنة إلاّ من كان كذلك من قرابات أولئك، ولا ينفع مجرد كونه من الآباء أو الأزواج، أو الذرية بدون صلاح {والملائكة يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ} أي: من جميع أبواب المنازل التي يسكنونها، أو المراد من كل باب من أبواب التحف والهدايا من الله سبحانه. {سلام عَلَيْكُمُ} أي: قائلين سلام عليكم أي: سلمتم من الآفات أو دامت لكم السلامة {بِمَا صَبَرْتُمْ} أي بسبب صبركم وهو متعلق بالسلام أي: إنما حصلت لكم هذه السلامة بواسطة صبركم أو متعلق بعليكم، أو بمحذوف أي: هذه الكرامة بسبب صبركم أو بدل ما احتملتم من مشاقّ الصبر {فَنِعْمَ عقبى الدار} جاء سبحانه بهذه الجملة المتضمنة لمدح ما أعطاهم من عقبى الدار المتقدّم ذكرها للترغيب والتشويق.
ثم اتبع أحوال السعداء بأحوال الأشقياء، فقال: {والذين يَنقُضُونَ عَهْدَ الله مِن بَعْدِ ميثاقه وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ} وقد مرّ تفسير عدم النقض وعدم القطع فعرف منهما تفسير النقض والقطع، ولم يتعرض لنفي الخشية والخوف عنهم وما بعدهما من الأوصاف المتقدّمة لدخولها في النقض والقطع {وَيُفْسِدُونَ فِى الأرض} بالكفر وارتكاب المعاصي والأضرار بالأنفس والأموال {أولئك} الموصوفون بهذه الصفات الذميمة {لَهُمْ} بسبب ذلك {اللعنة}: أي: الطرد والإبعاد من رحمة الله سبحانه: {وَلَهُمْ سُوء الدار} أي: سوء عاقبة دار الدنيا، وهي النار أو عذاب النار.
وقد أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن قتادة في قوله تعالى: {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبّكَ الحق} قال: هؤلاء قوم انتفعوا بما سمعوا من كتاب الله وعقلوه ووعوه {كَمَنْ هُوَ أعمى} قال: عن الحق فلا يبصره ولا يعقله {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الألباب} فبين من هم، فقال: {الذين يُوفُونَ بِعَهْدِ الله}.
وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير {أولوا الألباب} قال: من كان له لبّ، أي: عقل.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن قتادة أن الله ذكر الوفاء بالعهد والميثاق في بضع وعشرين آية من القرآن.
وأخرج الخطيب، وابن عساكر عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن البرّ والصلة ليخففان سوء الحساب يوم القيامة» ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {والذين يَصِلُونَ مَا أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوء الحِسَابِ}.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن سعيد بن جبير في قوله: {والذين يَصِلُونَ مَا أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ} يعني: من إيمان بالنبيين وبالكتب كلها {وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} يعني: يخافون من قطيعة ما أمر الله به أن يوصل {وَيَخَافُونَ سُوء الحِسَابِ} يعني: شدّة الحساب.
وقد ورد في صلة الرحم وتحريم قطعها أحاديث كثيرة.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، أبو الشيخ عن الضحاك {وَيَدْرَءونَ بالحسنة السيئة} قال: يدفعون بالحسنة السيئة.
وأخرج عبد الرزاق، والفريابي، وابن أبي شيبة، وهناد، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وأبو الشيخ عن ابن مسعود في قوله: {جنات عَدْنٍ} قال: بطنان الجنة، يعني: وسطها.
وأخرج عبد بن حميد عن الحسن أن عمر قال لكعب: ما عدن؟ قال: هو قصر في الجنة لا يدخله إلاّ نبيّ أو صدّيق أو شهيد أو حكم عدل.
وأخرج ابن مردويه عن عليّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «جنة عدن قضيب غرسه الله بيده، ثم قال له: كن فكان».
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن مجاهد {وَمَنْ صَلَحَ مِنْ ءابَائِهِمْ} قال: من آمن في الدنيا.
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن أبي عمران الجوني في قوله: {سلام عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ} قال: على دينكم {فَنِعْمَ عقبى الدار} قال: نعم ما أعقبكم الله من الدنيا في الجنة.
وأخرج أحمد، والبزار، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن حبان، وأبو الشيخ، وابن مردويه، والحاكم، وصححه، وأبو نعيم في الحلية، والبيهقي في شعب الإيمان عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أوّل من يدخل الجنة من خلق الله فقراء المهاجرين الذين تسدّ بهم الثغور، وتتقى بهم المكاره، ويموت أحدهم وحاجته، في صدره لا يستطيع لها قضاء، فيقول الله لمن يشاء من ملائكته: ائتوهم فحيوهم، فتقول الملائكة: ربنا نحن سكان سمائك وخيرتك من خلقك، أفتأمرنا أن نأتي هؤلاء فنسلم عليهم؟ قال الله: إن هؤلاء عبادي كانوا يعبدونني ولا يشركون بي شيئاً، وتسدّ بهم الثغور، وتتقى بهم المكاره، ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء، فتأتيهم الملائكة عند ذلك فيدخلون عليهم من كل باب {سلام عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عقبى الدار}»
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن أبي أمامة: إن المؤمن ليكون متكئاً على أريكة إذا دخل الجنة وعنده سماطان من خدم، وعند طرف السماطين باب مبوّب، فيقبل الملك فيستأذن، فيقول أقصى الخدم للذي يليه: ملك يستأذن، ويقول الذي يليه: ملك يستأذن، حتى يبلغ المؤمن، فيقول: ائذنوا له، فيقول أقربهم إلى المؤمن: ائذنوا له، ويقول الذي يليه للذي يليه: ائذنوا له حتى يبلغ أقصاهم الذي عند الباب فيفتح له فيدخل ويسلم عليه، ثم ينصرف.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس {وَلَهُمْ سُوء الدار} قال: سوء العاقبة.


لما ذكر الله سبحانه عاقبة المشركين بقوله: {وَلَهُمْ سُوء الدار} كان لقائل أن يقول: قد نرى كثيراً منهم قد وفر الله له الرزق وبسط له فيه، فأجاب عن ذلك بقوله: {الله يَبْسُطُ الرزق لِمَنْ يَشَاء وَيَقَدِرُ} فقد يبسط الرزق لمن كان كافراً، ويقتره على من كان مؤمناً ابتلاءً وامتحاناً، ولا يدلّ البسط على الكرامة ولا القبض على الإهانة، ومعنى يقدر: يضيق، ومنه {مِنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [الطلاق: 7] أي: ضيق. وقيل: معنى يقدر يعطي بقدر الكفاية، ومعنى الآية: أنه الفاعل لذلك وحده القادر عليه دون غيره {وَفَرِحُواْ بالحياة الدنيا} أي: مشركو مكة فرحوا بالدنيا وجهلوا ما عند الله، قيل: وفي هذه الآية تقديم وتأخير، والتقدير: الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض وفرحوا بالحياة الدنيا، فيكون {وفرحوا} معطوفاً على يفسدون {وَمَا الحياة الدنيا فِى الآخرة إِلاَّ متاع} أي: ما هي إلاّ شيء يستمتع به، وقيل: المتاع واحد الأمتعة كالقصعة والسكرجة ونحوهما، وقيل: المعنى: شيء قليل ذاهب، من متع النهار: إذا ارتفع فلا بدّ له من زوال، وقيل: زاد كزاد الراكب يتزوّد به منها إلى الآخرة.
{وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مّن رَّبّهِ} أي يقول: أولئك المشركون من أهل مكة هلا أنزل على محمد آية من ربه؟ وقد تقدّم تفسير هذا قريباً، وتكرر في مواضع {قُلْ إِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشَاء} أمره الله سبحانه أن يجيب عليهم بهذا، وهو أن الضلال بمشيئة الله سبحانه، من شاء أن يضله ضلّ كما ضلّ هؤلاء القائلون {لولا أنزل عليه آية من ربه} {وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} أي: ويهدي إلى الحق، أو إلى الإسلام، أو إلى جنابه- عزّ وجلّ- {مَنْ أَنَابَ}: أي: من رجع إلى الله بالتوبة والإقلاع عما كان عليه، وأصل الإنابة الدخول في نوبة الخير. كذا قال النيسابوري، ومحل الذين آمنوا النصب على البدلية من قوله: {مَنْ أَنَابَ} أي: أنهم هم الذين هداهم الله وأنابوا إليه، ويجوز أن يكون {الذين أمنوا} خبر مبتدأ محذوف أي: هم الذين آمنوا، أو منصوب على المدح {وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ الله} أي: تسكن وتستأنس بذكر الله سبحانه بألسنتهم، كتلاوة القرآن، والتسبيح، والتحميد، والتكبير، والتوحيد، أو بسماع ذلك من غيرهم، وقد سمي سبحانه القرآن ذكراً قال: {وهذا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أنزلناه} [الأنبياء: 50]، وقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر} [الحجر: 9]. قال الزجاج: أي إذا ذكر الله وحده آمنوا به غير شاكين بخلاف من وصف بقوله: {وَإِذَا ذُكِرَ الله وَحْدَهُ اشمأزت قُلُوبُ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة}
[الزمر: 45] وقيل: تطمئن قلوبهم بتوحيد الله، وقيل: المراد بالذكر هنا: الطاعة، وقيل: بوعد الله، وقيل: بالحلف بالله، فإذا حلف خصمه بالله سكن قلبه، وقيل: بذكر رحمته، وقيل: بذكر دلائله الدالة على توحيده {أَلاَ بِذِكْرِ الله} وحده دون غيره {تَطْمَئِنُّ القلوب} والنظر في مخلوقات الله سبحانه وبدائع صنعه وإن كان يفيد طمأنينة في الجملة، لكن ليست كهذه الطمأنينة، وكذلك النظر في المعجزات من الأمور التي لا يطيقها البشر، فليس إفادتها للطمأنينة كإفادة ذكر الله، فهذا وجه ما يفيده هذا التركيب من القصر.
{الذين امَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات طوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَئَابٍ} الموصول مبتدأ خبره الجملة الدعائية، وهي طوبى لهم على التأويل المشهور، ويجوز أن يكون الموصول في محل نصب على المدح، وطوبى لهم خبر مبتدأ محذوف، ويجوز أن يكون الموصول بدلاً من القلوب على حذف مضاف أي: قلوب الذين آمنوا. قال أبو عبيدة، والزجاج، وأهل اللغة: طوبى فعلى من الطيب. قال ابن الأنباري: وتأويلها الحال المستطابة، وقيل: طوبى شجرة في الجنة، وقيل: هي الجنة، وقيل: هي البستان بلغة الهند، وقيل: معنى {طوبى لهم}: حسنى لهم، وقيل: خير لهم، وقيل: كرامة لهم، وقيل: غبطة لهم، قال النحاس: وهذه الأقوال متقاربة، والأصل طيبى فصارت الياء واواً لسكونها وضم ما قبلها، واللام في لهم للبيان مثل سقياً لك ورعياً لك، وقرئ: {حسن مآب} بالنصب والرفع، من آب إذا رجع أي: وحسن مرجع، وهو الدار الآخرة.
{كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِى أُمَّةٍ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ} أي: مثل ذلك الإرسال العظيم الشأن المشتمل على المعجزة الباهرة، أرسلناك يا محمد، وقيل: شبه الأنعام على من أرسل إليه محمد صلى الله عليه وسلم بالأنعام على من أرسل إليه الأنبياء قبله، ومعنى {فِى أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ} في قرن قد مضت من قبله قرون، أو في جماعة من الناس قد مضت من قبلها جماعات {لّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الذى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} أي: لتقرأ عليهم القرآن {يَكْفُرُونَ * بالرحمن} أي: بالكثير الرحمة لعباده، ومن رحمته لهم إرسال الرسل إليهم وإنزال الكتب عليهم كما قال سبحانه: {وَمَا أرسلناك إِلاَّ رَحْمَةً للعالمين} [الأنبياء: 107] وجملة {قُلْ هُوَ رَبّى} مستأنفة بتقدير سؤال كأنهم قالوا: وما الرحمن؟ فقال سبحانه: {قُلْ} يا محمد {هُوَ رَبّى} أي: خالقي {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} أي: لا يستحق العبادة له والإيمان به سواه {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} في جميع أموري {وَإِلَيْهِ} لا إلى غيره {مَتَابِ} أي: توبتي، وفيه تعريض بالكفار وحثّ لهم على الرجوع إلى الله والتوبة من الكفر والدخول في الإسلام.
وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن عبد الرحمن بن سابط في قوله: {وَمَا الحياة الدنيا فِى الاخرة إِلاَّ متاع} قال: كزاد الراعي يزوده أهله الكف من التمر أو الشيء من الدقيق، أو الشيء يشرب عليه اللبن.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية قال: كان الرجل يخرج في الزمان الأول في إبله، أو غنمه، فيقول لأهله: متعوني فيمتعونه فلقة الخبز أوالتمر، فهذا مثل ضربه الله للدنيا.
وأخرج الترمذي وصححه عن عبد الله ابن مسعود قال: نام رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير فقام وقد أثر في جنبه، فقلنا: يا رسول الله لو اتخذنا لك؟ فقال: «ما لي وللدنيا، ما أنا في الدنيا إلاّ كراكب استظل تحت شجرة، ثم راح وتركها».
وأخرج مسلم، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه عن المستورد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما الدنيا في الآخرة إلاّ كمثل ما يجعل أحدكم أصبعه هذه في اليم فلينظر بم يرجع؟ وأشار بالسبابة».
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: {وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ الله} قال: هشت إليه واستأنست به، وأخرج أبو الشيخ عن السدّي في الآية قال: إذا حلف لهم بالله صدقوا. {أَلاَ بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ القلوب} قال: تسكن.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن مجاهد في الآية قال: بمحمد وأصحابه.
وأخرج أبو الشيخ عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه حين نزلت هذه الآية: {ألا بذكر الله تَطْمَئِنُّ القلوب} «هل تدرون ما معنى ذلك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: من أحبّ الله ورسوله وأحبّ أصحابي»
وأخرج ابن مردويه عن عليّ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية: {أَلاَ بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ القلوب} قال: «ذاك من أحبّ الله ورسوله، وأحبّ أهل بيتي صادقاً غير كاذب، وأحبّ المؤمنين شاهداً وغائباً، ألا بذكر الله يتحابون».
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: {طوبى لَهُمْ} قال: فرح وقرّة عين.
وأخرج ابن أبي شيبة، وهناد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن عكرمة في قوله: {طوبى لَهُمْ} قال: نعم ما لهم.
وقد روي عن جماعة من السلف نحو ما قدّمنا ذكره من الأقوال، والأرجح تفسير الآية بما روي مرفوعاً إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم كما أخرجه أحمد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن حبان، والطبراني، وابن مردويه، والبيهقي عن عتبة ابن عبد قال: «جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله في الجنة فاكهة؟ قال: نعم فيها شجرة تدعى طوبى»
الحديث.
وأخرج أحمد، وأبو يعلى، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن حبان، والخطيب في تاريخه عن أبي سعيد الخدري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن رجلاً قال: يا رسول الله، طوبى لمن رآك وآمن بك، قال: «طوبى لمن آمن بي ورآني، ثم طوبى ثم طوبى ثم طوبى لمن آمن بي ولم يرني»، فقال رجل: وما طوبى؟ قال: «شجرة في الجنة مسير مائة عام، ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها» وفي الباب أحاديث وآثار عن السلف، وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وفي الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة، اقرءوا إن شئتم {وَظِلّ مَّمْدُودٍ} [الواقعة: 30]» وفي بعض الألفاظ: «إنها شجرة الخلد».
وأخرج أبو الشيخ عن السديّ {وَحُسْنُ مَئَابٍ} قال: حسن منقلب.
وأخرج ابن جرير عن الضحاك مثله.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بالرحمن} قال: ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية حين صالح قريشاً كتب في الكتاب: «بسم الله الرحمن الرحيم، فقالت قريش: أما الرحمن فلا نعرفه، وكان أهل الجاهلية يكتبون باسمك اللهم، فقال أصحابه: دعنا نقاتلهم، فقال: لا، ولكن اكتبوا كما يريدون».
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن ابن جريج في هذه الآية نحوه.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد {وَإِلَيْهِ مَتَابِ} قال: توبتي.


قوله: {وَلَوْ أَنَّ قُرْانًا سُيّرَتْ بِهِ الجبال} قيل: هذا متصل بقوله: {لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءايَةٌ مّن رَّبّهِ} [الرعد: 7] وأن جماعة من الكفار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسير لهم جبال مكة حتى تنفسح فإنها أرض ضيقة، فأمره الله سبحانه بأن يجيب عليهم بهذا الجواب المتضمن لتعظيم شأن القرآن، وفساد رأي الكفار حيث لم يقنعوا به وأصرّوا على تعنتهم وطلبهم، ما لو فعله الله سبحانه لم يبق ما تقتضيه الحكمة الإلهية، من عدم إنزال الآيات التي يؤمن عندها جميع العباد. ومعنى {سيّرت به الجبال} أي: بإنزاله وقراءته فسارت عن محل استقرارها {أَوْ قُطّعَتْ بِهِ الأرض} أي: صدّعت حتى صارت قطعاً متفرقة {أَوْ كُلّمَ بِهِ الموتى} أي: صاروا أحياء بقراءته عليهم، فكانوا يفهمونه عند تكليمهم به كما يفهمه الأحياء.
وقد اختلف في جواب {لو} ماذا هو؟ فقال الفراء: هو محذوف، وتقديره: لكان هذا القرآن، وروي عنه أنه قال: إن الجواب: لكفروا بالرحمن، أي: لو فعل بهم هذا لكفروا بالرحمن، وقيل: جوابه لما آمنوا كما سبق في قوله: {مَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاء الله} [الأنعام: 111] وقيل: الجواب متقدّم، وفي الكلام تقديم وتأخير، أي: وهم يكفرون بالرحمن لو أن قرآنا إلى آخره، وكثيراً ما تحذف العرب جواب {لو} إذا دلّ عليه سياق الكلام، ومنه قول امرئ القيس:
فلو أنها نفس تموت جميعةً *** ولكنها نفس تساقط أنفساً
أي: لهان عليّ ذلك {بَل للَّهِ الأمر جَمِيعًا} أي: لو أن قرآنا فعل به ذلك لكان هذا القرآن، ولكن لم يفعل بل فعل ما عليه الشأن الآن، فلو شاء أن يؤمنوا لآمنوا، وإذا لم يشأ أن يؤمنوا لم ينفع تسيير الجبال وسائر ما اقترحوه من الآيات، فالإضراب متوجه إلى ما يؤدّى إليه كون الأمر لله سبحانه، ويستلزمه من توقف الأمر على ما تقتضيه حكمته ومشيئته، ويدلّ على أن هذا هو المعنى المراد من ذلك قوله: {أفلم ييأس الذين آمنوا أن يشاء الله لهدى الناس جميعاً}. قال الفراء: قال الكلبي: {أفلم ييأس} بمعنى: أفلم يعلم، وهي لغة النخع. قال في الصحاح: وقيل: هي لغة هوازن، وبهذا قال جماعة من السلف. قال أبو عبيدة: أفلم يعلموا ويتبينوا، قال الزجاج: وهو مجاز لأن اليائس من الشيء عالم بأنه لا يكون، نظيره استعمال الرجاء في معنى الخوف، والنسيان في الترك لتضمنهما إياهما، ويؤيده قراءة عليّ، وابن عباس، وجماعة {أفلم يتبين} ومن هذا قول رباح بن عدّي:
ألم ييأس الأقوام أني أنا ابنه *** وإن كنت عن أرض العشيرة نائبا
أي: لم يعلم، وأنشد في هذا أبو عبيدة قول مالك بن عوف النضري:
أقول لهم بالشعب إذ يأسرونني *** ألم تيأسوا أني ابن فارس زهدم
أي: لم تعلموا، فمعنى الآية على هذا: أفلم يعلم الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً من غير أن يشاهدوا الآيات، وقيل: إن الإياس على معناه الحقيقي أي: أفلم ييأس الذين آمنوا من إيمان هؤلاء الكفار، لعلمهم أن الله تعالى لو أراد هدايتهم لهداهم؛ لأن المؤمنين تمنوا نزول الآيات التي اقترحها الكفار طمعاً في إيمانهم {وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ} هذا وعيد للكفار على العموم أو لكفار مكة على الخصوص أي: لا يزال الذين كفروا تصيبهم بسبب ما صنعوا من الكفر والتكذيب للرسل قارعة أي: داهية تفجؤهم، يقال: قرعه الأمر إذا أصابه، والجمع قوارع، والأصل في القرع الضرب. قال الشاعر:
أفنى تلادي وما جمعت من نشب *** قرع القراقير أفواه الأباريق
والمعنى: أن الكفار لا يزالون كذلك حتى تصيبهم داهية مهلكة من قتل أو أسر أو جدب أو نحو ذلك من العذاب، وقد قيل: إن القارعة النكبة، وقيل: الطلائع والسرايا، ولا يخفى أن القارعة تطلق على ما هو أعمّ من ذلك {أَوْ تَحُلُّ} أي: القارعة {قَرِيبًا مّن دَارِهِمْ} فيفزعون منها ويشاهدون من آثارها ما ترجف له قلوبهم وترعد منه بوادرهم. وقيل: إن الضمير في {تَحُلُّ} للنبي صلى الله عليه وسلم. والمعنى: أو تحلّ أنت يا محمد قريباً من دارهم محاصراً لهم آخذاً بمخانقهم كما وقع منه لأهل الطائف {حتى يَأْتِىَ وَعْدُ الله} وهو موتهم، أو قيام الساعة عليهم، فإنه إذا جاء وعد الله المحتوم حلّ بهم من عذابه ما هو الغاية في الشدّة، وقيل: المراد بوعد الله هنا الإذن منه بقتال الكفار، والأوّل أولى {إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد} فما جرى به وعده فهو كائن لا محالة.
{وَلَقَدِ استهزئ بِرُسُلٍ مّن قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ} التنكير في رسل للتكثير أي: برسل كثيرة، والإملاء: الإمهال، وقد مرّ تحقيقه في الأعراف {ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ} بالعذاب الذي أنزلته بهم {فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} الاستفهام للتقريع والتهديد أي: فكيف كان عقابي لهؤلاء الكفار الذين استهزءوا بالرسل، فأمليت لهم ثم أخذتهم.
ثم استفهم سبحانه استفهاماً آخر للتوبيخ والتقريع يجري مجرى الحجاج للكفار واستركاك صنعهم والإزراء عليهم، فقال: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ على كُلّ نَفْسٍ} القائم الحفيظ والمتولي للأمور، وأراد سبحانه نفسه، فإنه المتولي لأمور خلقه المدبر لأحوالهم بالآجال والأرزاق، وإحصاء الأعمال على كل نفس من الأنفس كائنة ما كانت، والجواب محذوف أي: أفمن هو بهذه الصفة كمن ليس بهذه الصفة من معبوداتكم التي لا تنفع ولا تضرّ. قال الفراء: كأنه في المعنى أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت كشركائهم الذين اتخذوهم من دون الله، والمراد من الآية إنكار المماثلة بينهما، وقيل: المراد بمن هو قائم على كل نفس الملائكة الموكلون ببني آدم، والأوّل أولى، وجملة {وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَاء} معطوفة على الجواب المقدّر مبينة له أو حالية بتقدير قد أي: وقد جعلوا، أو معطوفة على {وَلَقَدِ استهزئ} أي: استهزءوا وجعلوا {قُلْ سَمُّوهُمْ} أي: قل يا محمد جعلتم له شركاء فسموهم من هم؟ وفي هذا تبكيت لهم وتوبيخ؛ لأنه إنما يقال هكذا في الشيء المستحقر الذي لا يستحّق أن يلتفت إليه، فيقال: سمه إن شئت يعني: أنه أحقر من أن يسمى؛ وقيل: إن المعنى سموهم بالآلهة كما تزعمون، فيكون ذلك تهديداً لهم {أَمْ تُنَبّئُونَهُ} أي: بل أتنبئون الله {بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِى الأرض} من الشركاء الذين تعبدونهم مع كونه العالم بما في السموات والأرض {أَم بظاهر مّنَ القول} أي: بل أتسمونهم شركاء بظاهر من القول من غير أن تكون له حقيقة؛ وقيل: المعنى قل لهم أتنبئون الله بباطن لا يعلمه أم بظاهر يعلمه؟ فإن قالوا: بباطن لايعلمه فقد جاءوا بدعوى باطلة، وإن قالوا بظاهر يعلمه فقل لهم: سموهم، فإذا سموا اللات والعزى ونحوهما، فقل لهم إن الله لا يعلم لنفسه شريكاً، وإنما خص الأرض بنفي الشريك عنها، وإن لم يكن له شريك في غير الأرض، لأنهم ادّعوا له شريكاً في الأرض.
وقيل: معنى {أَم بظاهر مّنَ القول} أم بزائل من القول باطل، ومنه قول الشاعر:
أعيرتنا ألبانها ولحومها *** وذلك عار يا ابن ريطة ظاهر
أي: زائل باطل، وقيل: بكذب من القول، وقيل: معنى {بظاهر من القول} بحجة من القول ظاهرة على زعمهم {بَلْ زُيّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ} أي: ليس لله شريك، بل زين للذين كفروا مكرهم. وقرأ ابن عباس {زين} على البناء للفاعل على أن الذي زين لهم ذلك هو مكرهم. وقرأ من عداه بالبناه للمفعول، والمزين هو الله سبحانه، أو الشيطان ويجوز أن يسمى المكر كفراً، لأن مكرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم كان كفراً. وأما معناه الحقيقي فهو الكيد، أو التمويه بالأباطيل {وَصُدُّواْ عَنِ السبيل} قرأ حمزة والكسائي وعاصم {صدّوا} على البناء للمفعول أي: صدهم الله، أو صدهم الشيطان. وقرأ الباقون على البناء للفاعل أي: صدّوا غيرهم، واختار هذه القراءة أبو حاتم. وقرأ يحيى بن وثاب بكسر الصاد {وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} أي: يجعله ضالاً وتقتضي مشيئته إضلاله، فما له من هادٍ يهديه إلى الخير. قرأ الجمهور {هاد} من دون إثبات الياء على اللغة الكثيرة الفصيحة. وقرئ بإثباتها على اللغة القليلة، ثم بين سبحانه ما يستحقونه، فقال: {لَّهُمْ عَذَابٌ فِى الحياة الدنيا} بما يصابون به من القتل والأسر وغير ذلك {وَلَعَذَابُ الآخرة أَشَقُّ} عليهم من عذاب الحياة الدنيا {وَمَا لَهُم مّنَ الله مِن وَاقٍ} يقيهم عذابه، ولا عاصم يعصمهم منه.
ثم لما ذكر سبحانه مما يستحقه الكفار من العذاب في الأولى والأخرى، ذكر ما أعدّه للمؤمنين، فقال: {مَّثَلُ الجنة التى وُعِدَ المتقون تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار} أي: صفقتها العجيبة الشأن التي هي في الغرابة كالمثل، قال ابن قتيبة: المثل الشبه في أصل اللغة، ثم قد يصير بمعنى صورة الشيء وصفته، يقال: مثلت لك كذا أي: صوّرته ووصفته، فأراد هنا بمثل الجنة وصورتها وصفتها، ثم ذكرها، فقال: {تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار} وهو كالتفسير للمثل. قال سيبويه: وتقديره فيما قصصنا عليك مثل الجنة.
وقال الخليل وغيره: إن {مثل الجنة} مبتدأ والخبر {تجري}.
وقال الزجاج: إنه تمثيل للغائب بالشاهد، ومعناه مثل الجنة جنة تجري من تحتها الأنهار، وقيل: إن فائدة الخبر ترجع إلى {أُكُلُهَا دَائِمٌ} أي: لا ينقطع، ومثله قوله سبحانه: {لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ} [الواقعة: 33] وقال الفراء: المثل مقحم للتأكيد، والمعنى: الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار، والعرب تفعل ذلك كثيراً {وِظِلُّهَا} أي: كذلك دائم لا يتقلص ولا تنسخه الشمس، والإشارة بقوله: {تِلْكَ} إلى الجنة الموصوفة بالصفات المتقدّمة، وهو مبتدأ خبره {عقبى الذين اتقوا} أي: عاقبة الذين اتقوا المعاصي، ومنتهى أمرهم {وَّعُقْبَى الكافرين النار} ليس لهم عاقبة ولا منتهى إلاّ ذلك.
وقد أخرج الطبراني، وأبو الشيخ عن ابن عباس قال: قالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم: إن كان كما تقول فأرنا أشياخنا الأول من الموتى نكلمهم، وافسح لنا هذه الجبال جبال مكة التي قد ضمتنا، فنزلت: {وَلَوْ أَنَّ قُرْانًا سُيّرَتْ بِهِ الجبال} الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه عن عطية العوفي قال: قالوا لمحمد صلى الله عليه وسلم: لو سيرت لنا جبال مكة حتى تتسع فنحرث فيها، أو قطعت لنا الأرض كما كان سليمان يقطع لقومه بالريح، أو أحييت لنا الموتى كما كان يحيي عيسى الموتى لقومه، فأنزل الله: {وَلَوْ أَنَّ قُرْانًا سُيّرَتْ بِهِ الجبال} الآية إلى قوله: {أفلم ييأس الذين ءامنوا} قال: أفلم يتبين الذين آمنوا، قالوا: هل تروي هذا الحديث عن أحد من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم؟ قال: عن أبي سعيد الخدريّ: عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وأخرجه أيضاً ابن أبي حاتم قال: حدّثنا أبو زرعة، حدّثنا منجاب بن الحرث، أخبرنا بشر بن عمارة، حدّثنا عمر بن حسان، عن عطية العوفي فذكره.
وأخرج ابن جرير، وابن مردويه من طريق العوفي عن ابن عباس نحوه مختصراً.
وأخرج أبو يعلى، وأبو نعيم في الدلائل، وابن مردويه عن الزبير بن العوام في ذكر سبب نزول الآية نحو ما تقدّم مطوّلاً.
وأخرج ابن إسحاق، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {بَل للَّهِ الأمر جَمِيعًا} لا يصنع من ذلك إلاّ ما يشاء ولم يكن ليفعل.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس {أفلم ييأس} يقول: يعلم.
وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ من طريق أخرى عنه نحوه.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن أبي العالية {وَلَوْ أَنَّ} قال: قد يئس الذين آمنوا أن يهدوا ولو شاء الله لهدى الناس جميعاً.
وأخرج الفريابي، وابن جرير، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: {تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ} قال: السرايا.
وأخرج الطيالسي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل عنه نحوه، وزاد {أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مّن دَارِهِمْ} قال: أنت يا محمد حتى يأتي وعد الله. قال: فتح مكة.
وأخرج ابن مردويه عن أبي سعيد نحوه.
وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم عن ابن عباس {قَارِعَةٌ} قال: نكبة.
وأخرج ابن جرير، وابن مردويه من طريق العوفي عنه قارعة قال: عذاب من السماء، {أو تحلّ قريباً من دارهم}: يعني نزول رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم وقتاله آباءهم.
وأخرج ابن جرير، وابن مردويه عنه أيضاً في قوله: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ على كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} قال: يعني بذلك نفسه.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن عطاء في الآية قال: الله تعالى قائم بالقسط والعدل على كل نفس.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: {أَم بظاهر مّنَ القول} قال: الظاهر من القول هو الباطل.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن عكرمة في قوله: {مَّثَلُ الجنة} قال: نعت الجنة، ليس للجنة مثل.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن إبراهيم التيمي في قوله: {أُكُلُهَا دَائِمٌ} قال: لذَّاتها دائمة في أفوائهم.

1 | 2 | 3